رواية رحلة الآثام بقلم منال سالم

موقع أيام نيوز


ثم خاطبها بعتاب خفيف 
أكيد ده مش شكل حد ناوي شړ دي أسئلة عادية بنكسر بيها الملل فأرجو إن ده مايكونش مضايقك.
ردت بقدر من الحيطة
مقصدش بس مش متعودة أتكلم مع حد مش عارفاه.
هز رأسه متفهما حين عقب عليها
معاكي حق الحرص واجب برضوه...
بقيت نظرات تهاني مرتكزة عليه لا تعرف ما الذي كان يستحثها لمواصلة الحوار معه رأت كيف زادت ملامحه

ارتخاء حين سألها بمكر
بس الأهم إني معرفش لحد دلوقتي اسمك ممكن أعرفه ولا في مانع
رغم القلق الذي يمور بداخلها تجاهه إلا أنها بعد لحظة من التردد قالت
أنا دكتورة تهاني.
تعمدت إضافة هذا اللقب لتشعره بأهميتها لكنها وجدت ابتسامته اللبقة تتسع قليلا سرعان ما تعلقت نظراتها بيده الممدودة لمصافحتها عندما تكلم وهو يطالعها باهتمام
تشرفنا يا هانم...
اندهشت منه وبادلته المصافحة فأكمل جملته وهو يمنحها نظرة ذات مغزى 
وأنا الدكتور ممدوح.
تلقائيا وجدت نفسها تبدل من أسلوبها المتجافي في التعامل لآخر لطيف مرح على أمل أن ينتهي هذا الحوار العابر بشيء من المنفعة المستقبلية فقلما التقت بأحد ممن ينتمون لفئة الأثرياء المنعمين بكافة سبل الراحة والسعادة.
كانت شديدة الحرص في عدم الحديث عن أمورها الشخصية فانتقت من الكلام ما جعل غالبيته يدور عن طبيعة عملها والمعاناة التي تتلقاها لتحصل على التقدير الملائم خاصة بعدما استثير فضولها بأحاديث ممدوح المشوقة عن جولاته وصولاته بالداخل والخارج فباتت شبه متأكدة من ملء جيوبه بما يفيض ليفعل ذلك لهذا أخفت عنه ما اعتبرته فقرها المعيب وبؤسها المنفر فكيف تخبره بأنواع البشر الذين تعيش معهم وهو ينضحون بكل ما هو تعيس. انجذبت كليا إلى أسلوبه المشوق في سرد خبراته العلمية وما حاز عليه من جوائز وشهادات تقدير في فترات وجيزة وما زاد من إعجابها به أنه أخبرها بتخصصه في نفس مجالها مع فارق انتمائه لجامعة أخرى غير التي تخرجت منها.
للحظة شردت بخيالها بعيدا كأنما حلقت فيما بعد الأفق حيث وجدت فيه الطموح والوسيلة لتحقيق أحلامها العالقة. شتت صدفة لقائهما صوت النداء الداخلي فنهضت تودعه وهي تمد يدها لمصافحته
فرصة سعيدة د. ممدوح أتمنى نتقابل تاني.
بدلا من مصافحتها رفع يدها برقة إلى فمه ليقبلها بنعومة قائلا
أنا حقيقي محظوظ إنتي اتقابلت معاكي.
خفق قلبها لملاطفته التي لم تعهدها مطلقا وأحست بشيء ناوش مشاعرها رمشت بعينيها غير مصدقة تصرفه فتابع مشددا بنبرته المهتمة
خدي بالك من نفسك يا دكتورة تهاني.
قالت بصوت مضطرب وهي تجاهد للحفاظ على ثبات بسمتها المرتبكة
وحضرتك كمان.
لامها في ود
بلاش حضرتك دي كده بتحسسيني إني كبير في السن.
استعادت يدها من بين أصابعه وردت نافية في توتر
لأ خالص.
تصنع الضحك فحاولت التغطية على حرجها بقولها
وشكرا مرة تانية على المياه.
اكتفى بالابتسام لها فتلبكت أمام نظراته المليئة بشيء كانت تتوق إليه تنحنحت متابعة وهي تشير بيدها
يدوب ألحق اتحرك.
أشار لها بيده قبل أن يخفيها في جيب سروال بدلته البنية
اتفضلي.
تحركت بتباطؤ والتفتت لأكثر من مرة لتلوح له وهي تبتسم كالبلهاء كان لا يزال واقفا في موضعه يمنحها نفس القدر من الابتسام والاهتمام بالكاد أبعدت نظراتها عنه قبل أن تختفي وسط جموع المتجهين إلى بوابة الصعود على متن الطائرة وهي ترجو أن يجمعها القدر به مرة أخرى.
ساعدتها المضيفة على بلوغ مقعدها المحجوز مسبقا بمؤخرة الطائرة فابتسمت لها مجاملة ووضعت حقيبتها الصغيرة بالدرج العلوي قبل أن تجلس وتشد حزام الأمان حول خصرها. كانت ممتنة لكونها ملاصقة للنافذة الصغيرة حيث ستتمكن من رؤية السماء والسحب حين تحلق الطائرة عاليا نظرت جانبا عندما سمعت جلبة قريبة منها اشرأبت بعنقها محاولة متابعة ما يدور لكن فضولها تبدد وقد أشارت المضيفة لشابة غريبة عنها لتستقر بجوارها.
سرعان ما شملتها تهاني بنظرة فاحصة مدققة لهيئتها شبه الفوضوية ثيابها كانت عادية بل أقل بكثير من مقياس التناسق والملائمة الذي تضعه كمعيار في رأسها لم تكن مثلها محجبة ومع هذا لم تبد اهتماما بتصفيف شعرها بل عقدته جديلة طويلة وكأنها
طالبة بالمرحلة الإعدادية ينقصها فقط الأنشوطة البيضاء والثوب الرمادي. تطلعت الشابة غريبة الأطوار إليها بنظرات مشرقة مفعمة بالحياة واستطردت تسألها بلا مقدمات استهلالية
مش إنتي دكتورة تهاني
استغربت لمعرفتها السابقة بها وردت في دهشة حائرة
أيوه.
ظلت ابتسامتها المتسعة كالبلهاء تملأ كامل وجهها ورفعت يدها لتصافحها معرفة بنفسها
أنا دكتورة ابتهال من قسم الحشرات ومعاكي في البعثة.
يا للحظ العاثر من بين كل البشر تصبح هذه السمجة رفيقتها كيف ستتحمل المكوث معها طوال الأيام بل الأسابيع القادمة ريثما توفق أوضاعها وتستقل بذاتها إنها الچحيم بعينه! بالكاد لامست يدها الممدودة إليها وبنوع من الترفع أيضا همهمت
أها أهلا بيكي.
أضافت ابتهال بحماس
أنا كنت دايما بشوفك في الكلية وفرحت أوي إنك معانا في البعثة ده الواحد أصلا مش مصدق إنه بقى على الطيارة...
ثم خفضت من نبرتها لتبدو وكأنها تهمس في أذنها عندما أكملت جملتها
يعني كان صعب يطلعونا وسط الوسايط ما إنتي فاهمة بقى.
لم تنبس تهاني بكلمة بل شعرت بالضجر والانزعاج من وجودها وأظهرت ذلك على قسماتها لعل وعسى تفطن هذه الثرثارة إلى استيائها لكنها واصلت الحديث بلا توقف وسألتها
أكيد وشي مألوف بالنسبالك
تعاملت معها بجفاء فجاء ردها
لأ ماظنش.
وكأنها لم تفقه للأسلوب المتعالي الذي تتخذه معها فاستأنفت الكلام بأريحية تامة كما لو كانت تربطها صلة وثيقة بها
احنا برضوه قسمنا كان منعزل عن الباقيين بس أنا اللي عاملة زي الدودة عمالة أور هنا وهناك عشان أعرف كل حاجة فتلاقيني كده ليا لي كلام مع غالبية الناس وبيعرفوني على طول ما هو أنا أصلي عشرية مش بالساهل حد ينساني كده.
كانت كالصداع الذي يفتك بالرأس لم تستطع الخلاص منها بسهولة سحبت شهيقا عميقا تثبط به الضيق الذي راح يتصاعد بداخلها ولفظته وهي توجز في مشاركتها بالكلام 
تمام.
تفاجأت بها تلكزها في جانب ذراعها كما لو كانت رفيقة حميمية لها احتدت نظراتها وسددت لها نظرة محذرة فوجدتها تدعي الضحك لتخبرها بعدها في سماجة غير مستساغة لها
احتمال يحطونا في أوضة واحدة في السكن يعني باعتبار إن مافيش غيرنا بنات.
وقتئذ حلت تكشيرة مستاءة على تقاسيمها وقالت بعبوس منفعل
ادعي نوصل بالسلامة الأول وبعد كده نشوف اللي هيحصل.
كانت هادئة إلى أقصى الحدود فرددت بتنهيدة بطيئة
يا رب بصي أنا بحاول ألهي تفكيري بالرغي معاكي شوية يعني بدل ما التوتر يمسك فيا.
أغمضت تهاني عينيها في يأس إسكاتها كان مستحيلا وضعت يدها أعلى جبينها وصوت هذه المزعجة يخاطبها
تعرفي يا دكتورة تهاني ولا أقولك نخلي البساط أحمدي بينا فأنا أقولك تهاني كده بس وإنتي تقوليلي ابتهال.
أطلقت بعد ذلك ضحكة مجلجلة لتضيف
معلش أنا رغاية حبتين زيادة وآ...
نفد صبرها على الأخير فانتفضت تصيح بها
أنا دماغي مصدعة ممكن نهدى حبة.
أومأت برأسها مغمغمة
ماشي.
صمتت لثانيتين قبل أن تعاود الكلام
طب قدامنا أد إيه عقبال ما نوصل
نفخت تهاني في سأم وأخبرتها في صيغة متسائلة
مكتوب في التذكرة ماشوفتيهاش ولا إيه
أجابت عليها بابتسامة عريضة
لأ أصلي متوترة زيادة عن اللزوم...
أولتها جانب وجهها وهي تبرطم بسخط بينما ظلت ابتهال تحادثها بلا أدنى شعور بالملل
عارفة بقية البعثة كلها قاعدة قدام المفروض كنا نبقى معاهم بس ملاقوش أماكن كفاية ف...
سلطت تهاني كامل نظراتها على ما تطل عليه نافذتها الصغيرة وهذا الصوت المحتقن بداخلها يردد في نقم
هو أنا كنت ناقصة واحدة زيها!!
مضت ساعات مكوثها بالطائرة بطيئة للغاية لم تسلم خلالها من لسان ابتهال الثرثار فقد كانت تملك طاقة كلامية لا تنضب أبدا وعلى قدر طاقة تحملها حاولت تهاني تجاهلها وتعاملت معها بجفاء ورسمية بحتة لكنها لم تفهم بالتلميحات المبطنة ولا بالإشارات
المعلنة حيث واصلت تحريك فاهها لتحكي في أي شيء وكل شيء. ما إن انتهت كلتاهما من إجراءات الوصول حتى أسرعت تهاني في خطاها لتبتعد عنها لكنها كانت كظلها لحقت بها ولم تتركها تغيب عن نظرها لثانية.
بمجرد أن اقتربتا من باب الخروج من صالة المطار لفحة من الهواء الساخن لطمت وجنة ابتهال فراحت تشتكي وهي تحرك يدها كالمروحة لعلها تحصل على نسمة مرطبة
ياني على الجو ده ولا جهنم...
نظرت لها تهاني شزرا هي مثلها تشعر بسخونة الجو وتوقعت اختلاف المناخ هنا ومع ذلك لم تشتك. أضافت هذه المزعجة بعد زمة سريعة لشفتيها
وربنا احنا بلدنا نعمة الهوا فيها يرد الروح وينعش القلب.
كالعادة لاذت بالصمت الإجباري معها وتابعت سيرها نحو المخرج فسألتها ابتهال مستفهمة
هما قالوا هنركب إيه عشان نروح السكن
نفخت بصوت مسموع قبل أن تجيبها
في أكيد أتوبيس هيوصلنا مش هنمشيها يعني!
انتبهت ابتهال لأحدهم على وجه الخصوص وهو يقف أعلى الرصيف الخارجي للمطار فصړخت بفرحة وكأنها رأت نجما سنمائيا
بصي هناك ده دكتور عبد الحافظ هو المسئول عننا هنا الحمدلله إني شوفته.
اندهشت لمبالغتها وظلت تحدق بها وهي تأمرها
تعالي نروحله أكيد هو مستنينا.
لم تكتف بذلك بل صړخت عاليا غير مبالية بلفت الأنظار إليهما
يا دكتور عبد الحافظ يا دكتور!
نظر إليها الرجل الخمسيني الوقور باهتمام بدا على ملامحه عدم الاندهاش لرؤياها وتقدم ناحيتها مرحبا بها
حمدلله على السلامة يا دكتورة ابتهال...
اتجه بنظراته نحو تهاني وأكمل
أنا مستنيكم من بدري.
لم يحد بناظريه عنها وهو يسألها ليتأكد
دكتورة تهاني مظبوط
هزت برأسها قائلة
أيوه.
مد يده لمصافحتها وهو يعرف بنفسه
أنا الدكتور عبد الحافظ المسئول هنا.
رسمت ابتسامة صغيرة مهذبة على محياها مبادلة إياه التحية
اتشرفت بحضرتك.
تساءلت ابتهال مستوضحة وهي تدور برأسها حولها كأنما تفتش عن أحدهم
أومال باقي الزملاء فين سبقونا ولا إيه
أشار نحو حافلة متوسطة الحجم قبل أن يخبرها
موجودين في الأتوبيس.
عندئذ مالت بجسدها نحو تهاني لتهمس في أذنها بتذمر
شكلنا آخر ناس خلصوهم باين الكوسة هتشتغل من أولها.
كزت على شفتيها في حنق مزعوج منها أشاحت بوجهها بعيدا ولفظت زفيرا طويلا وهي تردد بلا صوت
ارحمني يا رب.
عن عمد تعمدت أن تسد أذنيها عنها حين جلستا متجاورتين في الحافلة الصغيرة علها تيأس منها وتصمت. التهت تهاني بالتحديق في الطريق وطافت ببصرها عبر زجاج النافذة على المعالم الصحراوية المحيطة بها كانت الطبيعة البيئية لهذه المنطقة تختلف عما اعتادت رؤيته في نهار عملها الروتيني من زحام واختناق مروري فالسماء كانت باهتة والغبار انتشر كالسحاب فجعل الرؤية ضبابية في أماكن ومتوسطة في أماكن أخرى. تسلل إليها وهي تحاول اللحاق بكل ما تراه لتحفظه الشعور بالرهبة والارتياب وأدت ما انتابها من أحاسيس خائڤة متسلحة بطموحها غير المحدود. 
تباطأت سرعة الحافلة عند منطقة سكنية معينة فأمعنت تهاني النظر بتدقيق لتعرف تفاصيل المكان جيدا فمن المفترض أن تقطن هنا. من الخارج بدت البناية نظيفة حديثة الطلاء جيدة التصميم لكن حين صعدت للأعلى وتحديدا للطابق الثالث حيث يقع بيتهما المستأجر انتظرتها مفاجأة غير سارة فما إن وضعت المفتاح في قفل الباب ووطأت للداخل صډمتها رائحة الهواء العطن فجعل صدرها ينقبض أحست بشيء غير مريح يناوشها أنارت الإضاءة فحلت
 

تم نسخ الرابط